فصل: الْبُيُوعُ الْمَنْطُوقُ بِهَا أَوِ الْمَسْمُوعَةُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْبُيُوعُ الْمَنْطُوقُ بِهَا أَوِ الْمَسْمُوعَةُ:

فَأَمَّا الْمَنْطُوقُ بِهِ فِي الشَّرْعِ فَمِنْهُ: نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَمِنْهَا: نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُخَلَّقْ، وَعَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِي، وَعَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَمِنْهَا: نَهْيُهُ عَنِ الْمُعَاوَمَةِ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَعَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، وَعَنْ بَيْعٍ، وَسَلَفٍ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ، وَالْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَنَهْيُهُ عَنِ الْمَضَامِينِ، وَالْمَلَاقِيحِ. أَمَّا بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ تعريفه وحكمه: فَكَانَتْ صُورَتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَلْمِسَ الرَّجُلُ الثَّوْبَ وَلَا يَنْشُرَهُ، أَوْ يَبْتَاعَهُ لَيْلًا، وَلَا يَعْلَمُ مَا فِيهِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَسَبَبُ تَحْرِيمِهِ الْجَهْلُ بِالصِّفَةِ.
وَأَمَّا بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ تعريفه وحكمه: فَكَانَ أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِلَى صَاحِبِهِ الثَّوْبَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَ أَنَّ هَذَا بِهَذَا، بَلْ كَانُوا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الِاتِّفَاقِ.
وَأَمَّا بَيْعُ الْحَصَاةِ تعريفه وحكمه: فَكَانَتْ صُورَتُهُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: أَيُّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحَصَاةُ الَّتِي أَرْمِي بِهَا فَهُوَ لِي، وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا وَقَعَتِ الْحَصَاةُ مِنْ يَدِي فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ وَهَذَا قِمَارٌ.
وَأَمَّا بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ: فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا كَانَتْ بُيُوعًا يُؤَجِّلُونَهَا إِلَى أَنْ تُنْتِجَ النَّاقَةُ مَا فِي بَطْنِهَا، ثُمَّ يَنْتِجُ مَا فِي بَطْنِهَا، وَالْغَرَرُ مِنْ جِهَةِ الْأَجَلِ فِي هَذَا بَيِّنٌ، وَقِيلَ إِنَّمَا هُوَ بَيْعُ جَنِينِ النَّاقَةِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ، وَالْمَلَاقِيحِ تعريفه وحكمه. (وَالْمَضَامِينُ: هِيَ مَا فِي بُطُونِ الْحَوَامِلِ، وَالْمَلَاقِيحُ: مَا فِي ظُهُورِ الْفُحُولِ)، فَهَذِهِ كُلُّهَا بُيُوعُ جَاهِلِيَّةٍ مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ مِنْ تِلْكَ الْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَأَمَّا بَيْعُ الثِّمَارِ قبل بدو صلاحها: فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَحَتَّى تُزْهِيَ». وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مَسَائِلُ مَشْهُورَةٌ نَذْكُرُ مِنْهَا نَحْنُ عُيُونَهَا. وَذَلِكَ أَنَّ بَيْعَ الثِّمَارِ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ قَبْلَ أَنْ تُخَلَّقَ أَوْ بَعْدَ أَنْ تُخَلَّقَ، ثُمَّ إِذَا خُلِّقَتْ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الصِّرَامِ أَوْ قَبْلَهُ، ثُمَّ إِذَا كَانَ قَبْلَ الصِّرَامِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ قَبْلَ أَنْ تُزْهِيَ أَوْ بَعْدَ أَنْ تُزْهِيَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بَيْعًا مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، أَوْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ (وَهُوَ بَيْعُ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ تُخَلَّقَ): فَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مُطْبِقُونَ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُخَلَّقْ، وَمِنْ بَابِ بَيْعِ السِّنِينَ وَالْمُعَاوَمَةِ تعريفه وحكمه. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ، وَعَنْ بَيْعِ الْمُعَاوَمَةِ»، وَهِيَ بَيْعُ الشَّجَرِ أَعْوَامًا. إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يُجِيزَانِ بَيْعَ الثِّمَارِ سِنِينَ.
وَأَمَّا بَيْعُهَا بَعْدَ الصِّرَامِ: فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ.
وَأَمَّا بَيْعُهَا بَعْدَ أَنْ خُلِّقَتْ: فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي نَذْكُرُهُ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الصِّرَامِ، فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ إِنَّهُ يَجُوزُ قَبْلَ الصِّرَامِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ بَعْدَ أَنْ تُزْهِيَ أَوْ قَبْلَ أَنْ تُزْهِيَ، وَقَدْ قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بَيْعًا مُطْلَقًا، أَوْ بَيْعًا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، أَوْ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ. فَأَمَّا بَيْعُهَا قَبْلَ الزَّهْوِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ: فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى مِنْ مَنْعِ ذَلِكَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ.
وَأَمَّا بَيْعُهَا قَبْلَ الزَّهْوِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ: فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ اللَّخْمِيُّ مِنْ جَوَازِهِ تَخْرِيجًا عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَأَمَّا بَيْعُهَا قَبْلَ الزَّهْوِ مُطْلَقًا: فَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، فَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ عِنْدَهُ فِيهِ الْقَطْعُ لَا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ بَيْعُ مَا لَمْ يَرَهُ بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ عِنْدَهُ فِي بَيْعِ الثَّمَرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ. أَمَّا دَلِيلُ الْجُمْهُورِ عَلَى مَنْعِ بَيْعِهَا مُطْلَقًا قَبْلَ الزَّهْوِ، فَالْحَدِيثُ الثَّابِتُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ» فَعُلِمَ أَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْغَايَةِ، وَأَنَّ هَذَا النَّهْيَ يَتَنَاوَلُ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، وَلَمَّا ظَهَرَ لِلْجُمْهُورِ أَنَّ الْمَعْنَى فِي هَذَا خَوْفُ مَا يُصِيبُ الثِّمَارَ الْجَائِحَةَ غَالِبًا قَبْلَ أَنْ تُزْهِيَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ الزَّهْوِ «أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟
»
لَمْ يَحْمِلِ الْعُلَمَاءُ النَّهْيَ فِي هَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ (أَعْنِي: النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْإِزْهَاءِ) بَلْ رَأَى أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ هُوَ بَيْعُهُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ إِلَى الْإِزْهَاءِ، فَأَجَازُوا بَيْعَهَا قَبْلَ الْإِزْهَاءِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَرَدَ الْبَيْعُ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْحَالِ: هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْقَطْعِ وَهُوَ الْجَائِزُ، أَوْ عَلَى التَّبْقِيَةِ الْمَمْنُوعَةِ؟
فَمَنْ حَمَلَ الْإِطْلَاقَ عَلَى التَّبْقِيَةِ، أَوْ رَأَى أَنَّ النَّهْيَ يَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِهِ قَالَ: لَا يَجُوزُ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْقَطْعِ قَالَ: يَجُوزُ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْإِطْلَاقَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّبْقِيَةِ، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَطْعِ.
وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَحُجَّتُهُمْ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ مُطْلَقًا قَبْلَ أَنْ تُزْهِيَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ»، قَالُوا: فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ جَازَ بِيعُهُ مُفْرَدًا، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ تُزْهِيَ عَلَى النَّدْبِ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ قَالَ الْمُبْتَاعُ: أَصَابَ الثَّمَرَ الزَّمَانُ، أَصَابَهُ مَا أَضَرَّ بِهِ قُشَامٌ وَمُرَاضٌ (لِعَاهَاتٍ يَذْكُرُونَهَا)، فَلَمَّا كَثُرَتْ خُصُومَتُهُمْ عِنْدَ النَّبِي قَالَ كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا عَلَيْهِمْ: لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا»، وَرُبَّمَا قَالُوا: إِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِي قَوْلِهِ: «حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ» هُوَ ظُهُورُ الثَّمَرَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟
»
. وَقَدْ كَانَ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَالَ مِنَ الْكُوفِيِّينَ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ يَكُنْ يَرَى رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ بَيْعِ الثِّمَارِ الْقَطْعَ أَنْ يُجِيزَ بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا عَلَى شَرْطِ التَّبْقِيَةِ، فَالْجُمْهُورُ يَحْمِلُونَ جَوَازَ بَيْعِ الثِّمَارِ بِالشَّرْطِ قَبْلَ الْإِزْهَاءِ عَلَى الْخُصُوصِ (أَعْنِي: إِذَا بِيعَ الثَّمَرُ مَعَ الْأَصْلِ).
وَأَمَّا شِرَاءُ الثَّمَرِ مُطْلَقًا بَعْدَ الزَّهْوِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَالْإِطْلَاقُ فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ يَقْتَضِي التَّبْقِيَةَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَرَأَيْتَ إِنْ مَنْعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ» الْحَدِيثَ. وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّ الْجَوَائِحَ إِنَّمَا تَطْرَأُ فِي الْأَكْثَرِ عَلَى الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَأَمَّا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَلَا تَظْهَرُ إِلَّا قَلِيلًا، وَلَوْ لَمْ يَجِبْ فِي الْمَبِيعِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ جَائِحَةٌ تُتَوَقَّعُ، وَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ بَيْعُ الثَّمَرِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، وَالْإِطْلَاقُ عِنْدَهُمْ كَمَا قُلْنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْقَطْعِ، وَهُوَ خِلَافُ مَفْهُومِ الْحَدِيثِ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ نَفْسَ بَيْعِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي تَسْلِيمَهُ وَإِلَّا لَحِقَهُ الْغَرَرُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ الْأَعْيَانُ إِلَى أَجَلٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الثِّمَارِ مُسْتَثْنًى مِنْ بَيْعِ الْأَعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ، لِكَوْنِ الثَّمَرِ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَيْبَسَ كُلُّهُ دُفْعَةً، فَالْكُوفِيُّونَ خَالَفُوا الْجُمْهُورَ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ أَنْ تُزْهِيَ.
وَالثَّانِي: فِي مَنْعِ تَبْقِيَتِهَا بِالشَّرْطِ بَعْدَ الْإِزْهَاءِ، أَوْ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَخِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ أَقْوَى مِنْ خِلَافِهِمْ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي (أَعْنِي: فِي شَرْطِ الْقَطْعِ وَإِنْ أُزْهِيَ)، وَإِنَّمَا كَانَ خِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ أَقْرَبَ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَأَمَّا بُدُوُّ الصَّلَاحِ الَّذِي جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْعَ بَعْدَهُ، فَهُوَ أَنْ يَصْفَرَّ فِيهِ الْبُسْرُ، وَيَسْوَدَّ فِيهِ الْعِنَبُ إِنْ كَانَ مِمَّا يَسْوَدُّ، وَبِالْجُمْلَةِ أَنْ تَظْهَرَ فِي الثَّمَرِ صِفَةُ الطِّيبِ، هَذَا هُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ حَتَّى يُزْهِيَ، فَقَالَ: حَتَّى يَحْمَرَّ»، وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَالْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ»، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُ لَا يَبِيعُ ثِمَارَهُ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا، وَذَلِكَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ أَيَارَ وَهُوَ مَايُو، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا «سُئِلَ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ الْعَاهَاتِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: ذَلِكَ وَقْتُ طُلُوعِ الثُّرَيَّا» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ صَبَاحًا رُفِعَتِ الْعَاهَاتُ عَنْ أَهْلِ الْبَلَدِ»، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُبَاعَ الْحَائِطُ، وَإِنْ لَمْ يَزْهَ إِذَا أَزْهَى مَا حَوْلَهُ مِنَ الْحِيطَانِ إِذَا كَانَ الزَّمَانُ قَدْ أُمِنَتْ فِيهِ الْعَاهَةُ، يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ طُلُوعَ الثُّرَيَّا، إِلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ حَائِطٌ حَتَّى يَبْدُوَ فِيهِ الزَّهْوُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَعَ الْإِزْهَاءِ طُلُوعُ الثُّرَيَّا. فَالْمُحَصَّلُ فِي بُدُوِّ الصَّلَاحِ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ: إِنَّهُ الْإِزْهَاءُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَوْلٌ: إِنَّهُ طُلُوعُ الثُّرَيَّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَائِطِ فِي حِينِ الْبَيْعِ إِزْهَاءٌ، وَقَوْلٌ: الْأَمْرَانِ جَمِيعًا. وَعَلَى الْمَشْهُورِ مِنِ اعْتِبَارِ الْإِزْهَاءِ، يَقُولُ مَالِكٌ إِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْحَائِطِ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ أَجْنَاسٌ مِنَ الثَّمَرِ مُخْتَلِفَةُ الطِّيبِ لَمْ يُبَعْ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا إِلَّا بِظُهُورِ الطِّيبِ فِيهِ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ اللَّيْثُ.
وَأَمَّا الْأَنْوَاعُ الْمُتَقَارِبَةُ الطِّيبِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِطِيبِ الْبَعْضِ، وَبُدُوُّ الصَّلَاحِ الْمُعْتَبَرُ عَنْ مَالِكٍ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنَ الثَّمَرِ هُوَ وُجُودُ الْإِزْهَاءِ فِي بَعْضِهِ لَا فِي كُلِّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْإِزْهَاءُ مُبَكِّرًا فِي بَعْضِهِ تَبْكِيرًا يَتَرَاخَى عَنْهُ الْبَعْضُ بَلْ إِذَا كَانَ مُتَتَابِعًا، لِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي تَنْجُو الثَّمَرَةُ فِيهِ فِي الْغَالِبِ مِنَ الْعَاهَاتِ هُوَ إِذَا بَدَأَ الطِّيبُ فِي الثَّمَرَةِ ابْتِدَاءً مُتَنَاسِقًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ. وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا بَدَأَ الطِّيبُ فِي نَخْلَةِ بُسْتَانٍ جَازَ بَيْعُهُ وَبَيْعُ الْبَسَاتِينِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ إِذَا كَانَ نَخْلُ الْبَسَاتِينِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بَيْعُ نَخْلِ الْبُسْتَانِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ الطِّيبُ فَقَطْ. وَمَالِكٌ اعْتَبَرَ الْوَقْتَ الَّذِي تُؤْمَنُ فِيهِ الْعَاهَةُ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ وَاحِدًا لِلنَّوْعِ الْوَاحِدِ. وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ نُقْصَانَ خِلْقَةِ الثَّمَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَطِبْ كَانَ مِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُخَلَّقْ، وَذَلِكَ أَنَّ صِفَةَ الطِّيبِ فِيهِ وَهِيَ مُشْتَرَاةٌ لَمْ تُخَلَّقْ بَعْدُ، لَكِنَّ هَذَا كَمَا قَالَ لَا يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ الثَّمَرَةِ بَلْ فِي بَعْضِ ثَمَرَةِ جَنَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَهَذَا هُوَ مَشْهُورُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ بَيْعِ الثِّمَارِ. وَمِنَ الْمَسْمُوعِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا جَاءَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ، وَالْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا دُونَ السُّنْبُلِ، لِأَنَّهُ بِيعَ مَا لَمْ تُعْلَمْ صِفَتُهُ وَلَا كَثْرَتُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ السُّنْبُلِ نَفْسِهِ مَعَ الْحَبِّ، فَجَوَّزَ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ السُّنْبُلِ نَفْسِهِ وَإِنِ اشْتَدَّ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ، وَقِيَاسًا عَلَى بَيْعِهِ مَخْلُوطًا بِتَبْنِهِ بَعْدَ الدَّرْسِ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ شَيْئَانِ: الْأَثَرُ وَالْقِيَاسُ: فَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخِيلِ حَتَّى تُزْهِيَ، وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتَّى تَبْيَضَّ، وَتَأْمَنَ الْعَاهَةَ، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ» وَهِيَ زِيَادَةٌ عَلَى مَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالزِّيَادَةُ إِذَا كَانَتْ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَتْهُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْحَدِيثِ.
وَأَمَّا بَيْعُ السُّنْبُلِ إِذَا أُفْرِكَ وَلَمْ يَشْتَدَّ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ إِلَّا عَلَى الْقَطْعِ.
وَأَمَّا بَيْعُ السُّنْبُلِ غَيْرَ مَحْصُودٍ، فَقِيلَ عَنْ مَالِكٍ يَجُوزُ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي حُزَمِهِ.
وَأَمَّا بَيْعُهُ فِي تِبْنِهِ بَعْدَ الدَّرْسِ فَلَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ فِيمَا أَحْسَبُ، هَذَا إِذَا كَانَ جُزَافًا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَكِيلًا فَجَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَا أَعْرِفُ فِيهِ قَوْلًا لِغَيْرِهِ. وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ أَجَازُوا بَيْعَ السُّنْبُلِ إِذَا طَابَ عَلَى مَنْ يَكُونُ حَصَادُهُ وَدَرْسُهُ، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: عَلَى الْبَائِعِ حَتَّى يَعْمَلَهُ حَبًّا لِلْمُشْتَرِي، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُوَ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ»، وَذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَكُلُّهَا مِنْ نَقْلِ الْعُدُولِ، فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْقَوْلِ بِمُوجَبِ هَذَا الْحَدِيثِ عُمُومًا، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيلِ، (أَعْنِي: فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا الِاسْمُ مِنَ الَّتِي لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا)، وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى بَعْضِهَا، وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا إِمَّا فِي مَثْمُونَيْنِ بِثَمَنَيْنِ، أَوْ مَثْمُونٍ وَاحِدٍ بِثَمَنَيْنِ، أَوْ مَثْمُونَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْبَيْعَيْنِ قَدْ لَزِمَ. أَمَّا فِي مَثْمُونَيْنِ بِثَمَنَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَبِيعُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِثَمَنِ كَذَا عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي هَذِهِ الدَّارَ بِثَمَنِ كَذَا، وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَبِيعُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِدِينَارٍ أَوْ هَذِهِ الْأُخْرَى بِدِينَارَيْنِ.
وَأَمَّا بَيْعُ مَثْمُونٍ وَاحِدٍ بِثَمَنَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ أَيْضًا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الثَّمَنَيْنِ نَقْدًا وَالْآخَرُ نَسِيئَةً، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَبِيعُكَ هَذَا الثَّوْبَ نَقْدًا بِثَمَنِ كَذَا عَلَى أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْكَ إِلَى أَجَلِ كَذَا بِثَمَنِ كَذَا.
وَأَمَّا مَثْمُونَانِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَبِيعُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ بِثَمَنِ كَذَا.
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَبِيعُكَ هَذِهِ الدَّارَ بِكَذَا عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي هَذَا الْغُلَامَ بِكَذَا، فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي كِلَيْهِمَا يَكُونُ مَجْهُولًا، لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ الْمَبِيعَيْنِ لَمْ يَتَّفِقَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي الْمَبِيعَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ. وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ فِي رَدِّ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ إِنَّمَا هُوَ جَهْلُ الثَّمَنِ، أَوِ الْمَثْمُونِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِدِينَارٍ أَوْ هَذِهِ الْأُخْرَى بِدِينَارَيْنِ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ لَزِمَ فِي أَحَدِهِمَا فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ النَّقْدُ وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا، وَخَالَفَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فِي ذَلِكَ، فَأَجَازَهُ إِذَا كَانَ النَّقْدُ وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا، وَعِلَّةُ مَنْعِهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ الْجَهْلُ، وَعِنْدَ مَالِكٍ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ أَنْ يَخْتَارَ فِي نَفْسِهِ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ، فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ ثَوْبًا وَدِينَارًا بِثَوْبٍ وَدِينَارٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَبِيعُكَ هَذَا الثَّوْبَ نَقْدًا بِكَذَا أَوْ نَسِيئَةً بِكَذَا، فَهَذَا إِذَا كَانَ الْبَيْعُ فِيهِ وَاجِبًا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَيْعُ لَازِمًا فِي أَحَدِهِمَا فَأَجَازَهُ مَالِكٌ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَلَى ثَمَنٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، وَجَعَلَهُ مَالِكٌ مِنْ بَابِ الْخِيَارِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ عَلَى الْخِيَارِ لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهِ نَدَمٌ يُوجِبُ تَحْوِيلَ أَحَدِ الثَّمَنَيْنِ فِي الْآخَرِ، وَهَذَا عِنْدَ مَالِكٍ هُوَ الْمَانِعُ، فَعِلَّةُ امْتِنَاعِ هَذَا الْوَجْهِ الثَّالِثِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ جِهَةِ جَهْلِ الثَّمَنِ، فَهُوَ عِنْدَهُمَا مِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا، وَعِلَّةُ امْتِنَاعِهِ عِنْدَ مَالِكٍ سَدُّ الذَّرِيعَةِ الْمُوجِبَةِ لِلرِّبَا لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي لَهُ الْخِيَارُ قَدِ اخْتَارَ أَوَّلًا إِنْفَاذَ الْعَقْدِ بِأَحَدِ الثَّمَنَيْنِ الْمُؤَجَّلِ أَوِ الْمُعَجَّلِ ثُمَّ بَدَا لَهُ وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ قَدْ تَرَكَ أَحَدَ الثَّمَنَيْنِ لِلثَّمَنِ الثَّانِي، فَكَأَنَّهُ بَاعَ أَحَدَ الثَّمَنَيْنِ بِالثَّانِي، فَيَدْخُلُهُ ثَمَنٌ بِثَمَنٍ نَسِيئَةً، أَوْ نَسِيئَةً وَمُتَفَاضِلًا، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ نَقْدًا، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ نَقْدٍ بَلْ طَعَامًا دَخَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُتَفَاضِلًا.
وَأَمَّا إِذَا قَالَ: أَشْتَرِي مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ نَقْدًا بِكَذَا عَلَى أَنْ تَبِيعَهُ مِنِّي إِلَى أَجَلٍ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعِينَةِ (وَهُوَ بَيْعُ الرَّجُلِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ)، وَيَدْخُلُهُ أَيْضًا عِلَّةُ جَهْلِ الثَّمَنِ.
وَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهُ: أَبِيعُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ بِدِينَارٍ، وَقَدْ لَزِمَهُ أَحَدُهُمَا أَيُّهُمَا اخْتَارَ، وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ الثَّوْبَانِ مِنْ صِنْفَيْنِ وَهُمَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُسْلَمَ أَحَدُهُمَا فِي الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: إِنَّهُ يَجُوزُ، وَعِلَّةُ الْمَنْعِ الْجَهْلُ، وَالْغَرَرُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَا مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ فَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ أَجَازَهُ لِأَنَّهُ يُجِيزُ الْخِيَارَ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ فِي الْأَصْنَافِ الْمُسْتَوِيَةِ لِقِلَّةِ الْغَرَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ لَا يُجِيزُهُ فَيَعْتَبِرُهُ بِالْغَرَرِ الَّذِي لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَلَى بَيْعٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْغَرَرَ الْكَثِيرَ فِي الْمَبِيعَاتِ لَا يَجُوزُ، وَأَنَّ الْقَلِيلَ يَجُوزُ. وَيَخْتَلِفُونَ فِي أَشْيَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ، فَبَعْضُهُمْ يُلْحِقُهَا بِالْغَرَرِ الْكَثِيرِ، وَبَعْضُهُمْ يُلْحِقُهَا بِالْغَرَرِ الْقَلِيلِ الْمُبَاحِ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَقَبْضُ الثَّوْبَيْنِ مِنَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَخْتَارَ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا أَوْ أَصَابَهُ عَيْبٌ فَمَنْ يُصِيبُهُ ذَلِكَ؟
فَقِيلَ تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ بَلْ يَضْمَنُهُ كُلَّهُ الْمُشْتَرِي، إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَلَاكِهِ، وَقِيلَ: فَرْقٌ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الثِّيَابِ وَمَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ، فَيُضَمَّنُ فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَلَا يُضَمَّنُ فِيمَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا هَلْ يَلْزَمُهُ أَخْذُ الْبَاقِي؟
قِيلَ: يَلْزَمُ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ، وَهَذَا يُذْكَرُ فِي أَحْكَامِ الْبُيُوعِ. وَيَنْبَغِي أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ الْمَسَائِلَ الدَّاخِلَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى هِيَ: أَمَّا عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فَمِنْ بَابِ الْغَرَرِ، وَأَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَمِنْهَا مَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ ذَرَائِعِ الرِّبَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ، فَهَذِهِ هِيَ الْمَسَائِلُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الثُّنْيَا، وَعَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ الْغَرَرُ فَالْأَشْبَهُ أَنْ نَذْكُرَهَا فِي الْمَبِيعَاتِ الْفَاسِدَةِ مِنْ قِبَلِ الشُّرُوطِ.

.فَصْلٌ الْبُيُوعُ الْمَسْكُوتُ عَنْهَا:

الْبُيُوعُ الْمَسْكُوتُ عَنْهَا:
وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْمَسْكُوتُ عَنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فَكَثِيرَةٌ، لَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهَا أَشْهَرَهَا لِتَكُونَ كَالْقَانُونِ لِلْمُجْتَهِدِ النَّظَّارِ.

.مَسْأَلَةٌ [بَيْعُ الْغَائِبِ وَالْمَوْصُوفِ حكمه]:

الْمَبِيعَاتُ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَبِيعٌ حَاضِرٌ مَرْئِيٌّ، فَهَذَا لَا خِلَافَ فِي بَيْعِهِ. وَمَبِيعٌ غَائِبٌ أَوْ مُتَعَذِّرُ الرُّؤْيَةِ، فَهُنَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، فَقَالَ قَوْمٌ: بَيْعُ الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لَا مَا وُصِفَ وَلَا مَا لَمْ يُوصَفْ، وَهَذَا أَشْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، (أَعْنِي أَنَّ بَيْعَ الْغَائِبِ عَلَى الصِّفَةِ لَا يَجُوزُ)، وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: يَجُوزُ بَيْعُ الْغَائِبِ عَلَى الصِّفَةِ إِذَا كَانَتْ غَيْبَتُهُ مِمَّا يُؤْمَنُ أَنْ تَتَغَيَّرَ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ صِفَتُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ، ثُمَّ لَهُ إِذَا رَآهَا الْخِيَارُ، فَإِنْ شَاءَ أَنْفَذَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ. وَكَذَلِكَ الْمَبِيعُ عَلَى الصِّفَةِ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَهُمْ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَإِنْ جَاءَ عَلَى الصِّفَةِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ عَلَى الصِّفَةِ فَهُوَ لَازِمٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ أَصْلًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْمَذْهَبِ: يَجُوزُ بَيْعُ الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ عَلَى شَرْطِ الْخِيَارِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَأَنْكَرَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَقَالَ: هُوَ مُخَالِفٌ لِأُصُولِنَا.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ نُقْصَانُ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالصِّفَةِ عَنِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْحِسِّ هُوَ جَهْلٌ مُؤَثِّرٌ فِي بَيْعِ الشَّيْءِ فَيَكُونُ مِنَ الْغَرَرِ الْكَثِيرِ، أَمْ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ، وَأَنَّهُ مِنَ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ؟
فَالشَّافِعِيُّ رَآهُ مِنَ الْغَرَرِ الْكَثِيرِ، وَمَالِكٌ رَآهُ مِنَ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ أَنَّهُ لَا غَرَرَ هُنَاكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ رُؤْيَةٌ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَرَأَى أَنَّ الْجَهْلَ الْمُقْتَرِنَ بِعَدَمِ الصِّفَةِ مُؤَثِّرٌ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ، وَلَا خِلَافَ عِنْدِ مَالِكٍ أَنَّ الصِّفَةَ إِنَّمَا تَنُوبُ عَنِ الْمُعَايَنَةِ لِمَكَانِ غَيْبَةِ الْمَبِيعِ، أَوْ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي فِي نَشْرِهِ، وَمَا يُخَافُ أَنْ يَلْحَقَهُ مِنَ الْفَسَادِ بِتَكْرَارِ النَّشْرِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا أَجَازَ الْبَيْعَ عَلَى الْبَرْنَامَجِ عَلَى الصِّفَةِ، وَلَمْ يَجُزْ عَنْدَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ فِي جِرَابِهِ، وَلَا الثَّوْبِ الْمَطْوِيِّ فِي طَيِّهِ حَتَّى يُنْشَرَ، أَوْ يُنْظَرَ إِلَى مَا فِي جِرَابِهَا. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَصْحَابُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَدِدْنَا أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَبَايَعَا حَتَّى نَعْلَمَ أَيُّهُمَا أَعْظَمُ جِدًّا فِي التِّجَارَةِ، فَاشْتَرَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَرَسًا بِأَرْضٍ لَهُ أُخْرَى بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا أَوْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ، وَفِيهِ بَيْعُ الْغَائِبِ مُطْلَقًا، وَلَا بُدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ اشْتِرَاطِ الْجِنْسِ. وَيَدْخُلُ الْبَيْعُ عَلَى الصِّفَةِ، أَوْ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ غَائِبٌ غَرَرٌ آخَرُ، وَهُوَ هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ مَعْدُومٌ؟
وَلِذَلِكَ اشْتَرَطُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ الْغَيْبَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُونًا كَالْعَقَارِ، وَمِنْ هَاهُنَا أَجَازَ مَالِكٌ بَيْعَ الشَّيْءِ بِرُؤْيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، (أَعْنِي: إِذَا كَانَ مِنَ الْقُرْبِ بِحَيْثُ يُؤْمَنُ أَنْ تَتَغَيَّرَ فِيهِ) فَاعْلَمْهُ.

.مَسْأَلَةٌ [تَأْخِيرُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ]:

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ، وَأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُبْتَاعِ بِأَثَرِ عَقْدِ الصَّفْقَةِ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا، وَرَبِيعَةَ، وَطَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَجَازُوا بَيْعَ الْجَارِيَةِ الرَّفِيعَةِ عَلَى شَرْطِ الْمُوَاضَعَةِ، وَلَمْ يُجِيزُوا فِيهَا النَّقْدَ كَمَا لَمْ يُجِزْهُ مَالِكٌ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ لِمَا يَدْخُلُهُ مِنَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَمِنْ عَدَمِ التَّسْلِيمِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، (أَعْنِي: لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَرَرِ مِنْ عَدَمِ التَّسْلِيمِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ) لَا مِنْ بَابِ الرِّبَا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي عِلَّةِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا كَانَ يَرَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْ غَرِيمِهِ فِي دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ تَمْرًا قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ، وَيَرَاهُ مِنْ بَابِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَكَانَ أَشْهَبَ يُجِيزُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي قَبْضِ شَيْءٍ مِنْهُ، (أَعْنِي: أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ قَبْضَ الْأَوَائِلِ مِنَ الْأَثْمَانِ يَقُومُ مَقَامَ قَبْضِ الْأَوَاخِرِ)، وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ.

.مَسْأَلَةٌ [بَيْعُ مَا يُثْمِرُ بُطُونًا مُخْتَلِفَةً]:

أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى بَيْعِ التَّمْرِ الَّذِي يُثْمِرُ بَطْنًا وَاحِدًا يَطِيبُ بَعْضُهُ وَإِنْ لَمْ تَطِبْ جُمْلَتُهُ مَعًا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُثْمِرُ بُطُونًا مُخْتَلِفَةً، وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْبُطُونَ الْمُخْتَلِفَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَتَّصِلَ أَوْ لَا تَتَّصِلَ، فَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ لَمْ يَكُنْ بَيْعُ مَا لَمْ يُخَلَّقْ مِنْهَا دَاخِلًا فِيمَا خُلِّقَ، كَشَجَرِ التِّينِ يُوجَدُ فِيهِ الْبَاكُورُ وَالْعَصِيرُ، ثُمَّ إِنِ اتَّصَلَتْ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَتَمَيَّزَ الْبُطُونُ أَوْ لَا تَتَمَيَّزُ.
فَمِثَالُ الْمُتَمَيِّزِ: جَزُّ الْقَصِيلِ الَّذِي يُجَزُّ مُدَّةً بَعْدَ مُدَّةٍ. وَمِثَالُ غَيْرِ الْمُتَمَيِّزِ: الْمَبَاطِخُ، وَالْمَقَاثِئُ، وَالْبَاذِنْجَانُ، وَالْقَرْعُ، فَفِي الَّذِي يَتَمَيَّزُ عَنْهُ وَيَنْفَصِلُ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا الْجَوَازُ، وَالْأُخْرَى الْمَنْعُ. وَفِي الَّذِي يَتَّصِلُ وَلَا يَتَمَيَّزُ قَوْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْجَوَازُ، وَخَالَفَهُ الْكُوفِيُّونَ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي هَذَا كُلِّهِ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَطْنٍ مِنْهَا بِشَرْطِ بَطْنٍ آخَرَ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ فِيمَا لَا يَتَمَيَّزُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَبْسُ أَوَّلِهِ عَلَى آخِرِهِ، فَجَازَ أَنْ يُبَاعَ مَا لَمْ يُخَلَّقْ مِنْهَا مَعَ مَا خُلِّقَ وَبَدَا صَلَاحُهُ، أَصْلُهُ جَوَازُ بَيْعِ مَا لَمْ يَطِبْ مِنَ الثَّمَرِ مَعَ مَا طَابَ، لِأَنَّ الْغَرَرَ فِي الصِّفَةِ شَبَّهَهُ بِالْغَرَرِ فِي عَيْنِ الشَّيْءِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الرُّخْصَةَ هَاهُنَا يَجِبُ أَنْ تُقَاسَ عَلَى الرُّخْصَةِ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ، (أَعْنِي: مَا طَابَ مَعَ مَا لَمْ يَطِبْ) لِمَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ مِنَ الْغَرَرِ مَا يَجُوزُ لِمَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، وَلِذَلِكَ مُنِعَ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُ بَيْعُ الْقَصِيلِ بَطْنًا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ هُنَاكَ إِذَا كَانَ مُتَمَيِّزًا.
وَأَمَّا وَجْهُ الْجَوَازِ فِي الْقَصِيلِ فَتَشْبِيهًا لَهُ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ عِنْدَهُمْ مِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُخَلَّقْ، وَمِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ مُعَاوَمَةً. وَاللِّفْتُ، وَالْجَزَرُ، وَالْكُرُنْبُ جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ بَيْعُهُ إِذَا بَدَا صَلَاحُهُ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُهُ لِلْأَكْلِ، وَلَمْ يُجِزْهُ الشَّافِعِيُّ إِلَّا مَقْلُوعًا، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ بَيْعِ الْمُغَيَّبِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ بَيْعُ الْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَالْبَاقِلَّا فِي قِشْرِهِ، أَجَازَهُ مَالِكٌ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هَلْ هُوَ مِنَ الْغَرَرِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْبُيُوعِ أَمْ لَيْسَ مِنَ الْمُؤَثِّرِ؟
وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا أَنَّ الْغَرَرَ يَنْقَسِمُ بِهَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَأَنَّ غَيْرَ الْمُؤَثِّرِ هُوَ الْيَسِيرُ أَوِ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، أَوْ مَا جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْغَدِيرِ، أَوِ الْبُرْكَةِ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا أَحْسَبُ، وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِي أُصُولُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ الْآبِقِ أَجَازَهُ قَوْمٌ بِإِطْلَاقٍ، وَمَنَعَهُ قَوْمٌ بِإِطْلَاقٍ وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ مَعْلُومَ الصِّفَةِ مَعْلُومَ الْمَوْضِعِ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي جَازَ، وَأَظُنُّهُ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْإِبَاقِ وَيَتَوَاضَعَانِ الثَّمَنَ، (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَقْبِضُهُ الْبَائِعُ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي)، لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ عِنْدَ الْعَقْدِ بَيْنَ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِهِ يَمْنَعُ بِهِ النَّقْدَ فِي بَيْعِ الْمُوَاضَعَةِ وَفِي بَيْعِ الْغَائِبِ غَيْرِ الْمَأْمُونِ، وَفِيمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِجَوَازِ بَيْعِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ حكمه عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ. وَالْحُجَّةُ لِلشَّافِعِيِّ حَدِيثُ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَعَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ، وَعَنْ شِرَاءِ مَا فِي ضُرُوعِهَا، وَعَنْ شِرَاءِ الْغَنَائِمِ حَتَّى تُقَسَّمَ»، وَأَجَازَ مَالِكٌ بَيْعَ لَبَنِ الْغَنَمِ أَيَّامًا مَعْدُودَةً إِذَا كَانَ مَا يُحْلَبُ مِنْهَا مَعْرُوفًا فِي الْعَادَةِ، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ فِي الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ، وَقَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ بَعْدَ الْحَلْبِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَنَعَ مَالِكٌ بَيْعَ اللَّحْمِ فِي جِلْدِهِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ بَيْعُ الْمَرِيضِ: أَجَازَهُ مَالِكٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْئُوسًا مِنْهُ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْهُ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ بَيْعُ تُرَابِ الْمَعْدِنِ، وَالصَّوَّاغِينَ، فَأَجَازَ مَالِكٌ بَيْعَ تُرَابِ الْمَعْدِنِ بِنَقْدٍ يُخَالِفُهُ، أَوْ بِعَرَضٍ، وَلَمْ يُجْزِ بَيْعَ تُرَابِ الصَّاغَةِ، وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ الْبَيْعَ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَأَجَازَهُ قَوْمٌ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. فَهَذِهِ هِيَ الْبُيُوعُ الَّتِي يُخْتَلَفُ فِيهَا، أَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ بِالْكَيْفِيَّةِ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْكَمِّيَّةِ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ شَيْءٌ مِنَ الْمَكِيلِ، أَوِ الْمَوْزُونِ، أَوِ الْمَعْدُودِ، أَوِ الْمَسْمُوحِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَكُونُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ قِبَلِ الْكَيْلِ الْمَعْلُومِ، أَوِ الصُّنُوجِ الْمَعْلُومَةِ مُؤَثِّرٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَفِي كُلِّ مَا كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْمَكِيلَةِ وَالْمَوْزُونَةِ، وَالْمَعْدُودَةِ، وَالْمَمْسُوحَةِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ بِمَقَادِيرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْحَزْرِ، وَالتَّخْمِينِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْجُزَافَ يَجُوزُ فِي أَشْيَاءَ وَيُمْنَعُ فِي أَشْيَاءَ. وَأَصْلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ مَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْكَثْرَةُ لَا آحَادٌ وَهُوَ عِنْدَهُ أَصْنَافٌ: مِنْهَا مَا أَصْلُهُ الْكَيْلُ وَيَجُوزُ جُزَافًا، وَهِيَ الْمَكِيلَاتُ، وَالْمَوْزُونَاتُ، وَمِنْهَا مَا أَصْلُهُ الْجُزَافُ وَيَكُونُ مَكِيلًا، وَهِيَ الْمَمْسُوحَاتُ كَالْأَرَضِينَ، وَالثِّيَابِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّقْدِيرُ أَصْلًا بِالْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ، بَلْ إِنَّمَا يَجُوزُ فِيهَا الْعَدَدُ فَقَطْ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا جُزَافًا، وَهِيَ كَمَا قُلْنَا الَّتِي الْمَقْصُودُ مِنْهَا آحَادُ أَعْيَانِهَا. وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ التِّبْرَ وَالْفِضَّةَ غَيْرَ الْمَسْكُوكَيْنِ يَجُوزُ بَيْعُهُمَا جُزَافًا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ، وَيُكْرَهُ. وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ تُبَاعَ الصُّبْرَةُ الْمَجْهُولَةُ حكم بيعها عَلَى الْكَيْلِ (أَيْ: كُلُّ كَيْلٍ مِنْهَا بِكَذَا)، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَكْيَالِ وَقَعَ مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ بَعْدَ كَيْلِهَا وَالْعِلْمِ بِمَبْلَغِهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُ إِلَّا فِي كَيْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الَّذِي سَمَّيَاهُ. وَيَجُوزُ هَذَا الْبَيْعُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْعَبِيدِ وَالثِّيَابِ، وَفِي الطَّعَامِ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الثِّيَابِ، وَالْعَبِيدِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ غَيْرُهُ فِي الْكُلِّ فِيمَا أَحْسَبُ لِلْجَهْلِ بِمَبْلَغِ الثَّمَنِ. وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَصْدُقَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ فِي كَيْلِهَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَيْعُ نَسِيئَةً، لِأَنَّهُ يَتَّهِمُهُ أَنْ يَكُونَ صِدْقُهُ لِيُنْظِرَهُ بِالثَّمَنِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يَكْتَالَهَا الْمُشْتَرِي لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى تَجْرِيَ فِيهِ الصِّيعَانُ، وَأَجَازَهُ قَوْمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمِمَّنْ مَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَمِمَّنْ أَجَازَهُ بِإِطْلَاقٍ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَعْلَمَ الْبَائِعُ الْكَيْلَ وَيَبِيعَ الْمَكِيلَ جُزَافًا مِمَّنْ يَجْهَلُ الْكَيْلَ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَالْمُزَابَنَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا هِيَ عِنْدَ مَالِكٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَهِيَ بَيْعُ مَجْهُولِ الْكَمِّيَّةِ بِمَجْهُولِ الْكَمِّيَّةِ، وَذَلِكَ أَمَّا فِي الرِّبَوِيَّاتِ فَلِمَوْضِعِ التَّفَاضُلِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ فَلِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْقَدْرِ.

.الْبَابُ الرَّابِعُ فِي بُيُوعِ الشُّرُوطِ والثُّنْيَا:

.بُيُوعُ الشُّرُوطِ:

وَهَذِهِ الْبُيُوعُ الْفَسَادُ الَّذِي يَكُونُ فِيهَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْفَسَادِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْغَرَرِ، وَلَكِنْ لَمَّا تَضَمَّنَهَا النَّصُّ وَجَبَ أَنْ تَجْعَلَ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ عَلَى حِدَةٍ. وَالْأَصْلُ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: أَحْدُهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ: «ابْتَاعَ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا وَشَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثٌ بَرِيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ»، وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُخَابَرَةِ، وَالْمُعَاوَمَةِ، وَالثُّنْيَا، وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا»، وَهُوَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَوَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ»، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ لِتَعَارُضِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي بَيْعٍ، وَشَرْطٍ، فَقَالَ قَوْمٌ: الْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَالشَّرْطُ جَائِزٌ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْبَيْعُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ جَائِزٌ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ابْنُ أَبِي شُبْرُمَةَ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَقَالَ أَحْمَدُ: الْبَيْعُ جَائِزٌ مَعَ شَرْطٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا مَعَ شَرْطَيْنِ فَلَا. فَمَنْ أَبْطَلَ الْبَيْعَ، وَالشَّرْطَ أَخَذَ بِعُمُومِ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، وَلِعُمُومِ نَهْيِهِ عَنِ الثُّنْيَا، وَمَنْ أَجَازَهُمَا جَمِيعًا أَخَذَ بِحَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ، وَمَنْ أَجَازَ الْبَيْعَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ أَخَذَ بِعُمُومِ حَدِيثِ بَرِيرَةَ، وَمَنْ لَمْ يُجِزِ الشَّرْطَيْنِ وَأَجَازَ الْوَاحِدَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا يَجُوزُ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ تَضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ هُوَ عِنْدَكَ».
وَأَمَّا مَالِكٌ فَالشُّرُوطُ عِنْدَهُ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: شُرُوطٌ تَبْطُلُ هِيَ وَالْبَيْعُ مَعًا، وَشُرُوطٌ تَجُوزُ هِيَ وَالْبَيْعُ مَعًا، وَشُرُوطٌ تَبْطُلُ وَيَثْبُتُ الْبَيْعُ، وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ عِنْدَهُ قِسْمًا رَابِعًا، وَهُوَ أَنَّ مِنَ الشُّرُوطِ مَا إِنْ تَمَسَّكَ الْمُشْتَرِطُ بِشَرْطِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَرَكَهُ جَازَ الْبَيْعُ، وَإِعْطَاءُ فُرُوقٍ بَيِّنَةٍ فِي مَذْهَبِهِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ عَسِيرٌ، وَقَدْ رَامَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى كَثْرَةِ مَا يَتَضَمَّنُ الشُّرُوطَ مِنْ صِنْفَيِ الْفَسَادِ الَّذِي يُخِلُّ بِصِحَّةِ الْبُيُوعِ وَهُمَا الرِّبَا، وَالْغَرَرُ، وَإِلَى قِلَّتِهِ، وَإِلَى التَّوَسُّطِ بَيْنَ ذَلِكَ، أَوْ إِلَى مَا يُفِيدُ نَقْصًا فِي الْمِلْكِ، فَمَا كَانَ دُخُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ قَبْلِ الشَّرْطِ أَبْطَلَهُ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ، وَمَا كَانَ قَلِيلًا أَجَازَهُ وَأَجَازَ الشَّرْطَ فِيهَا، وَمَا كَانَ مُتَوَسِّطًا أَبْطَلَ الشَّرْطَ، وَأَجَازَ الْبَيْعَ، وَيَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَذْهَبَهُ هُوَ أَوْلَى الْمَذَاهِبِ، إِذْ بِمَذْهَبِهِ تَجْتَمِعُ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا، وَالْجَمْعُ عِنْدَهُمْ أَحْسَنُ مِنَ التَّرْجِيحِ، وَلِلْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلَاتٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَأَحَدُ مَنْ لَهُ ذَلِكَ جَدِّي، وَالْمَازِرِيُّ، وَالْبَاجِيُّ، وَتَفْصِيلُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الشَّرْطَ فِي الْمَبِيعِ يَقَعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَوَّلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمِلْكِ، مِثْلُ مَنْ يَبِيعُ الْأَمَةَ أَوِ الْعَبْدَ، وَيَشْتَرِطُ أَنَّهُ مَتَى عُتِقَ كَانَ لَهُ وَلَاؤُهُ دُونَ الْمُشْتَرِي، فَمِثْلُ هَذَا قَالُوا: يَصِحُّ فِيهِ الْعَقْدُ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ شَرْطًا يَقَعُ فِي مُدَّةِ الْمِلْكِ، وَهَذَا قَالُوا: يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْمَبِيعِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُشْتَرِي مَنْعًا مِنْ تَصَرُّفٍ عَامٍّ أَوْ خَاصٍّ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ إِيقَاعَ مَعْنًى فِي الْمَبِيعِ، وَهَذَا أَيْضًا يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبِرِّ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْنًى لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْبِرِّ شَيْءٌ. فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً يَسِيرَةً لَا تَعُودُ بِمَنْعِ التَّصَرُّفِ فِي أَصْلِ الْمَبِيعِ، مِثْلَ أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ وَيَشْتَرِطَ سُكْنَاهَا مُدَّةً يَسِيرَةً مِثْلَ الشَّهْرِ، وَقِيلَ: السَّنَةُ، فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ. وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ مَنْعًا مِنْ تَصَرُّفٍ خَاصٍّ، أَوْ عَامٍّ، فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مِنَ الثُّنْيَا، وَمِثْلُ أَنْ يَبِيعَ الْأَمَةَ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا أَوْ لَا يَبِيعَهَا، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبِرِّ مِثْلَ الْعِتْقِ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ تَعْجِيلَهُ جَازَ عِنْدَهُ، وَإِنْ تَأَخَّرَ لَمْ يَجُزْ لِعِظَمِ الْغَرَرِ فِيهِ. وَبِقَوْلِ مَالِكٍ فِي إِجَازَةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ الْمُعَجَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ مِنْ قَوْلِهِ مَنْعَ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَهُ مُضْطَرِبُ اللَّفْظِ، لِأَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّهُ بَاعَهُ وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَعَارَهُ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَمَالِكٌ رَأَى هَذَا مِنْ بَابِ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ فَأَجَازَهُ فِي الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ وَلَمْ يُجِزْهُ فِي الْكَثِيرَةِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَعَلَى أَصْلِهِ فِي مَنْعِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا إِنِ اشْتَرَطَ مَعْنًى فِي الْمَبِيعِ لَيْسَ بِبِرٍّ مِثْلَ أَنْ لَا يَبِيعَهَا، فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَقِيلَ عَنْهُ الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ، وَقِيلَ بَلْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ فَقَطْ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ لَهُ الْبَائِعُ: مَتَى جِئْتُكَ بِالثَّمَنِ رَدَدْتَ عَلَيَّ الْمَبِيعَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ، إِنْ جَاءَ بِالثَّمَنِ كَانَ سَلَفًا، وَإِنْ لَمْ يَجِئْ كَانَ بَيْعًا. وَاخْتُلِفَ فِي الْمَذْهَبِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ فِي الْإِقَالَةِ أَمْ لَا؟
فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ فَسَخَهَا عِنْدَهُ مَا يَفْسَخُ سَائِرَ الْبُيُوعِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا فَسْخٌ فَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبُيُوعِ. وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِيمَنْ بَاعَ شَيْئًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنَ الثَّمَنِ، فَقِيلَ عَنْ مَالِكٍ يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الرَّهْنِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ هُوَ الْمَبِيعُ، أَوْ غَيْرُهُ، وَقِيلَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ يَمْنَعُ الْمُبْتَاعَ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ بِالْمُدَّةِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ اشْتِرَاطُ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ صِحَّةَ الْبَيْعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ إِنَّهُ جَائِزٌ فِي الْأَمَدِ الْقَصِيرِ. وَمِنَ الْمَسْمُوعِ فِي هَذَا الْبَابِ نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا تَرَكَ الشَّرْطَ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ النَّهْيَ يَتَضَمَّنُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَعَ أَنَّ الثَّمَنَ يَكُونُ فِي الْمَبِيعِ مَجْهُولًا لِاقْتِرَانِ السَّلَفِ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ الْبَرْمَكِيَّ سَأَلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيَّ، فَقَالَ لَهُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْبَيْعِ، وَبَيْنَ رَجُلٍ بَاعَ غُلَامًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَزِقِّ خَمْرٍ فَلَمَّا عَقَدَ الْبَيْعَ قَالَ: أَنَا أَدَعُ الزِّقَّ، قَالَ: وَهَذَا الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِإِجْمَاعٍ، فَأَجَابَ إِسْمَاعِيلُ عَنْ هَذَا بِجَوَابٍ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَهُوَ أَنْ قَالَ لَهُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مُشْتَرِطَ السَّلَفِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي تَرْكِهِ، أَوْ عَدَمِ تَرْكِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَسْأَلَةُ زِقِّ الْخَمْرِ، وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ نَفْسُ الشَّيْءِ الَّذِي طُولِبَ فِيهِ بِالْفَرْقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: لَمْ يَكُنْ هُنَا مُخَيَّرًا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مُخَيَّرًا فِي أَنْ يَتْرُكَ الزِّقَّ، وَيَصِحَّ الْبَيْعُ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّحْرِيمَ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ مُحَرَّمٍ بِعَيْنِهِ وَهُوَ السَّلَفُ، لِأَنَّ السَّلَفَ مُبَاحٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ مِنْ أَجْلِ الِاقْتِرَانِ (أَعْنِي: اقْتِرَانَ الْبَيْعِ بِهِ)، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ فِي نَفْسِهِ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا امْتُنِعَ مِنْ قِبَلِ اقْتِرَانِ الشَّرْطِ بِهِ، وَهُنَالِكَ إِنَّمَا امْتَنَعَ الْبَيْعُ مِنْ أَجْلِ اقْتِرَانِ شَيْءٍ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ بِهِ، لَا أَنَّهُ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ مِنْ قِبَلِ الشَّرْطِ. وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ هَلْ إِذَا لَحِقَ الْفَسَادُ بِالْبَيْعِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْطِ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ إِذَا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ أَمْ لَا يَرْتَفِعُ، كَمَا لَا يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ اللَّاحِقُ لِلْبَيْعِ الْحَلَالِ مِنْ أَجْلِ اقْتِرَانِ الْمُحَرَّمِ الْعَيْنِ بِهِ؟
وَهَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ هُوَ هَلْ هَذَا الْفَسَادُ حُكْمِيٌّ، أَوْ مَعْقُولٌ؟
فَإِنْ قُلْنَا: حُكْمِيٌّ لَمْ يَرْتَفِعْ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ، وَإِنْ قُلْنَا: مَعْقُولٌ ارْتَفَعَ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ، فَمَالِكٌ رَآهُ مَعْقُولًا، وَالْجُمْهُورُ رَأَوْهُ غَيْرَ مَعْقُولٍ، وَالْفَسَادُ الَّذِي يُوجَدُ فِي بُيُوعِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ هُوَ أَكْثَرُ ذَلِكَ حُكْمِيٌّ، لِذَلِكَ لَيْسَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ أَصْلًا، وَإِنْ تَرَكَ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيْعِ، أَوِ ارْتَفَعَ الْغَرَرُ. وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ إِذَا وَقَعَ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي أَحْكَامِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ بَيْعُ الْعُرْبَانِ: فَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَحُكِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ أَجَازُوهُ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَنَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَصُورَتُهُ: أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ شَيْئًا فَيَدْفَعُ إِلَى الْمُبْتَاعِ مِنْ ثَمَنِ ذَلِكَ الْمَبِيعِ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ إِنْ نَفَذَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا كَانَ ذَلِكَ الْمَدْفُوعُ مِنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْفَذْ تَرَكَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ الْجُزْءَ مِنَ الثَّمَنِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَلَمْ يُطَالِبْهُ بِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَنْعِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ وَالْمُخَاطَرَةِ، وَأَكْلِ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَانَ زَيْدٌ يَقُولُ: أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ: ذَلِكَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.